فصل: تفسير الآيات (66- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (65):

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}
{فَلاَ وَرَبّكَ} أي فوربِّك ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى القَسَمِ لا لتأكيد النفيِ في جوابه أعني قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنها تزادُ في الإثبات أيضاً كما في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} ونظائرِه {حتى يُحَكّمُوكَ} أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك، وإنما جيء بصيغة التحكيمِ مع أنه عليه الصلاةُ والسلام حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي فيما اختَلف بينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} عطفٌ على مقدر ينساق إليه الكلامُ أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا {فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} ضِيقاً {مّمَّا قَضَيْتَ} أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل: شكاً من أجله إذ الشاكُّ في ضيق من أمره {وَيُسَلّمُواْ} أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له {تَسْلِيماً} تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم، يقال: سلّم لأمر الله وأسلم له بمعنىً، وحقيقتُه سلّم نفسَه له وأسلمها إذا جعلها سالمةً له خالصةً، أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنِهم، قيل: نزلت في شأن المنافقِ واليهوديِّ السابقَين، وقيل: في شأن الزبيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك» فغضِب الأنصاريُّ وقال: لاِءَنْ كان ابنَ عمتِك فتغير وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسقِ يا زبيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك»، كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعبَ للزبير حقَّه في صريح الحُكم. ثم خرجا فمرّا على المقدادِ بن الأسود فقال: لمن القضاءُ؟ فقال الأنصاريُّ: قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قيس بنِ شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها. وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسرٍ رضي الله عنهم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالاً الإيمانُ أثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي» فنزلت في شأن هؤلاء.

.تفسير الآيات (66- 69):

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم} أي لو أوجبْنا عليهم مثلَ ما أوجبنا على بني إسرائيلَ من قتلهم أنفسَهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتِهم من عبادة العجلِ، و{ءانٍ} مصدريةٌ أو مفسرةٌ لأنّا كتبنا في معنى أمَرْنا {مَّا فَعَلُوهُ} أي المكتوبَ المدلولَ عليه بكتبْنا أو أحدِ مصدرَي الفعلين {إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} أي إلا أناسٌ قليلٌ منهم وهم المخلِصون من المؤمنين، وروي عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمَرَنا ربُّنا لفعلْنا والحمدُ لله الذي لم يفعلْ بنا ذلك، وقيل: معنى اقتُلوا أنفسَكم تعرَّضوا بها للقتل بالجهاد، وهو بعيدٌ وقرئ {إلا قليلاً} بالنصب على الاستثناء أو إلا فِعلاً قليلاً {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من متابعة الرسولِ عليه الصلاة والسلام وطاعتِه والانقيادِ لما يراه ويحكمُ به ظاهراً وباطناً، وسُمِّيت أوامرُ الله تعالى ونواهيه مواعِظَ لاقترانها بالوعد والوعيد {لَكَانَ} أي فعلُهم ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} عاجلاً وآجلاً {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لهم على الإيمان وأبعدَ من الاضطراب فيه وأشدَّ تثبيتاً لثواب أعمالِهم.
{وَإِذاً لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} جوابٌ لسؤال مقدرٍ كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ؟ فقيل: وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جوابٌ وجزاءٌ. {ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً} يصِلون بسلوكه إلى عالم القدسِ والطهارة ويفتح لهم أبوابَ الغيبِ، قال عليه الصلاة والسلام: «من عمِل بما علِم ورَّثه الله تعالى علمَ ما لم يعلَمْ» {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} كلامٌ مستأنفٌ فيه فضلُ ترغيبٍ في الطاعة ومزيدُ تشويقٍ إليها ببيان أن نتيجتَها أقصى ما يَنتهي إليه هممُ الأممِ وأرفعُ ما يمتدُّ إليه أعناقُ عزائمِهم من مجاورة أعظمِ الخلائقِ مقداراً وأرفعِهم مناراً، متضمِّنٌ لتفسير ما أُبهم في جواب الشرطيةِ السابقةِ وتفصيل ما أُجمل فيه، والمرادُ بالطاعة هو الانقيادُ التامُّ والامتثالُ الكاملُ لجميع الأوامرِ والنواهي {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المطيعين، والجمعُ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في فعل الشرطِ باعتبار لفظِها، وما فيه من معنى البُعد مع القُرب في الذكر للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف، وهو مبتدأٌ خبرُه {مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} والجملةُ جوابُ الشرطِ وتركُ ذكرِ المنعَمِ به للإشعار بقصور العبارةِ عن تفصيله وبيانِه {مّنَ النبيين} بيانٌ للمنعَم عليهم، والتعرّضُ لمعيّة سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلام مع أن الكلامَ في بيان حكمِ طاعةِ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام لجرَيانِ ذكرِهم في سبب النزولِ مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعتَه عليه الصلاةُ والسلام متضمِّنةٌ لطاعتهم لاشتمالِ شريعتِه على شرائعهم التي لا تتغيرُ بتغيّر الأعصار. رُوي أن نفراً من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيَّ الله إن صِرْنا إلى الجنة تفضُلُنا بدرجات النبوةِ فلا نراك.
وقال الشعبي: جاء رجلٌ من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: «ما يُبكيك يا فلان؟» فقال: يا رسولَ الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحبُّ إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرُك وأنا في أهلي فيأخذُني مثلُ الجنونِ حتى أراك وذكرتُ موتي وأنك تُرفع مع النبيين وإني إن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك، فلم يرُدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام فنزلتْ. وروي أن ثوبانَ مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان شديدَ الحبِّ له عليه الصلاة والسلام قليلَ الصبرِ عنه فأتاه يوماً وقد تغيّر وجهُه ونحُل جِسمُه وعُرف الحزُنُ في وجهه فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسولَ الله ما بي من وجع غير إني إذا لم أرَك اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك فذكرت الآخرةَ فخِفتُ أن لا أراك هناك لأني عرفتُ أنك ترفع مع النبيين وإن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزل دون منزلِك وإن لم أُدْخَلْ فذاك حين لا أراك أبداً، فنزلت. فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يؤمنُ عبدٌ حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وأبويه وأهلِه وولدِه والناسِ أجمعين». وحُكي ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وروي أن أنساً قال: يا رسولَ الله الرجلْ يحب قوماً ولمّا يلحَقْ بهم، قال عليه الصلاة والسلام: «المرءُ مع من أحبّ».
{والصديقين} أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاصِ في الأقوال والأفعالِ وهم أفاضلُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأماثلُ خواصِّهم المقربين كأبي بكر الصديقِ رضي الله عنه {والشهداء} الذين بذلوا أرواحَهم في طاعة الله تعالى وإعلاءِ كلمتِه {والصالحين} الصارفين أعمارَهم في طاعته وأموالَهم في مرضاته، وليس المرادُ بالمعية الاتحادَ في الدرجة ولا مطلقَ الاشتراكِ في دخول الجنةِ بل كونَهم فيها بحيث يتمكن كلُّ واحدٍ منهم من رؤية الآخرَ وزيارتِه متى أراد وإن بعُد ما بينهما من المسافة {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} الرفيقُ الصاحبُ مأخوذ من الرِّفق وهو لِينُ الجانبِ واللَّطافةُ في المعاشرة قولاً وفعلاً، فإن جُعل {أولئك} إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدَهم على أن ما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً فرفيقاً إما تمييزٌ أو حالٌ على معنى أنهم وُصفوا بالحُسن من جهة كونِهم رُفقاءَ للمطيعين أو حالَ كونِهم رفقاءَ، وإفرادُه لما أنه كالصِّديق والخليط، والرسولُ يستوي فيه الواحدُ والمتعدد، أو لأنه أريد حُسنُ كلِّ واحدٍ منهم رفيقاً وإن جعل إشارةً إلى المطيعين فهو تمييزٌ على معنى أنهم وُصفوا بحُسن الرفيقِ من النبيين ومَنْ بعدهم لا بنفس الحُسن فلا يجوز دخولُ مَنْ بعدهم عليه كما يجوز في الوجه الأولِ، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكدٌ للترغيب والتشويقِ، قيل: فيه معنى التعجُّبِ كأنه قيل: وما أحسنَ أولئك رفيقاً، ولاستقلاله بمعنى التعجبِ قرئ وحسن بسكون السين.

.تفسير الآية رقم (70):

{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
{ذلك} إشارةٌ إلى ما للمطيعين من عظيم الأجرِ ومزيدِ الهدايةِ ومرافقةِ هؤلاءِ المُنعَمِ عليهم، أو إلى فضلهم ومزيَّتِهم، وما فيه من معنى البُعدِ للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الشرف، وهو مبتدأ وقولُه تعالى: {الفضل} صفتُه وقوله تعالى: {مِنَ الله} خبرُه أي ذلك الفضلُ العظيمُ من الله تعالى لا من غيره أو الفضلُ خبرُه و{مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقعَ حالاً منه والعاملُ فيه معنى الإشارةِ أي ذلك الذي ذُكر فضلٌ كائناً من الله تعالى، لا أن أعمالَ المكلفين موجِبةٌ له {وكفى بالله عَلِيماً} بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضلِ واستحقاقِ أهلِه.

.تفسير الآيات (71- 73):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} الحِذْرُ والحذَرُ واحدٌ كالإثرْ والأثَرِ والشِبْهِ والشَّبَهِ أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تُمْكِنوه من أنفسكم، يقال: أخذ حِذْرَه إذا تيقظ واحترز من المَخُوف، كأنه جعَلَ الحذَرَ آلتَه التي يقي بها نفسَه، وقيل: هو ما يُحذر به من السلاح والحزمِ، أي استعدوا للعدو {فانفروا} بكسر الفاءِ وقرئ بضمها أي اخرُجوا إلى الجهاد عند خروجِكم {ثُبَاتٍ} جمعُ ثُبةٍ وهي الجماعةُ من الرجال فوق العشَرةِ ووزنها في الأصل فُعَلة كحُطَمة حُذفت لامُها وعوِّض عنها تاءُ التأنيثِ، وهل هي واوٌ أو ياء؟ فيه قولان، قيل: إنها مشتقةٌ من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمعَ، وقيل: من ثبَيْتُ على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعتَ محاسنَه ويُجمع أيضاً على ثُبينَ جبراً لما حُذف من عَجْزه، ومحلُّها النصبُ على الحالية أي انفِروا جماعاتٍ متفرقةً سَرِيةً بعد سرية {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي مجتمعين كوكبةً واحدةً ولا تتخاذلوا فتُلقوا بأنفسكم إلى التهلُكة.
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليتثاقَلَنّ وليتَخَلَّفَنَّ عن الجهاد من بطّأ بمعنى أبطأ كعتّم بمعنى أعتم، والخطابُ لعسكر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم المؤمنين منهم والمنافقين، والمُبَطِّئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلّفوا عن الجهاد، أو ليبطِّئن غيرَه ويُثَبِّطَنه، مِنْ بطَّأ منقولاً من بطُؤ كثقّل من ثقُل كما بطّأ ابنُ أُبيَ ناساً يوم أُحُد. والأولُ أنسبُ لما بعده واللامُ الأولى للابتداء دخلت على اسم إنّ للفصل بالخبر، والثانيةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والقسمُ بجوابه صلةُ مَنْ والراجعُ إليه ما استكنّ في ليبطِّئنَّ، والتقديرُ وإن منكم لمَنْ أُقسم بالله ليبطِّئن {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} كقتل وهزيمة {قَالَ} أي المُبَطِّىءُ فرحاً بصنعه وحامداً لرأيه {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ} أي بالقعود {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاءُ في الشرطية لترتيب مضمونِها على ما قبلها، فإن ذِكرَ التبطئةِ مستتبِعٌ لذكر ما يترتب عليها كما أن نفسَ التبطئةِ مستدعِيةٌ لشيء ينتظر المُبطىءُ وقوعَه {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ} كفتح وغنيمة {مِنَ الله} متعلقٌ بأصابكم أو بمحذوف وقع صفةً لفضلٌ أي فضلٌ كائنٌ من الله تعالى، ونسبتُه إصابةِ الفضلِ إلى جناب الله تعالى دون إصابةِ المصيبةِ من العادات الشريفةِ التنزيليةِ كما في قوله سبحانه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وتقديمُ الشرطيةِ الأولى لِما أن مضمونَها لمقصِدهم أوفقُ وأَثرَ نفاقِهم فيها أظهرُ {لَّيَقُولَنَّ} ندامةً على تَنبُّطه وقعودِه وتهالُكاً على حُطام الدنيا وتحسُّراً على فواته، وقرئ {ليقولُنَّ} بضم اللام إعادةً للضمير إلى معنى مَنْ وقوله تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} اعتراضٌ وُسِّط بين الفعلِ ومفعولِه الذي هو {مَوَدَّةٌ ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} لئلا يُفهمَ من مطلع كلامِه أن تمنِّيَهُ لمعيّة المؤمنين لنُصرتهم ومظاهَرتِهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة، بل هو للحِرص على المال كما ينطِق به آخِرُه وليس إثباتُ المودةِ في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكّمِ، وقيل: الجملةُ التشبيهيةُ حالٌ من ضمير ليقولَن أي ليقولَنّ مُشَبَّهاً بمَنْ لا مودةَ بينكم وبينه، وقيل: هي داخلةٌ في المقول أي ليقولن المُثبِّط لمن يُثبِّطه من المنافقين وضَعَفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ حيث لم يستصحِبْكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز: يا ليتني كنتُ معهم، وغرضُه إلقاءُ العداوةِ بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدُها، وكأنْ مخففةٌ من الثقيلة واسمُها ضميرُ الشأنِ وهو محذوفٌ، وقرئ {لم يكن} بالياء والمنادى في يا ليتني محذوفٌ أي يا قومُ، وقيل: يا أُطلق للتنبيه على الاتساع، وقولُه تعالى: {فَأَفُوزَ} نُصب على جواب التمني، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي فأنا أفوزُ في ذلك الوقت أو على أنه معطوفٌ على كنت داخلٌ معه تحت التمني.

.تفسير الآيات (74- 75):

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)}
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} قدِّم الظرفُ على الفاعل للاهتمام به {الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة} أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ أي إن بطّأ هؤلاءِ عن القتال فليقاتِلِ المُخلِصون الباذلون أنفسَهم في طلب الآخرةِ أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة، وهم المُبطِّئون فالفاءُ للتعقيب أي لِيترُكوا ما كانوا عليه من التثبُّط والنفاقِ ولْيُبدِّلوه بالقتال في سبيل الله {وَمَن يقاتل فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ التفاتاً {أَجْراً عَظِيماً} لا يقادَرُ قَدْرُه، وتعقيبُ القتالِ بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهدَ حقُّه أن يوطِّن نفسَه بإحدى الحسنيين ولا يُخطِرَ بباله القسمَ الثالثَ أصلاً، وتقديمُ القتلِ للإيذان بتقدّمه في استتباع الأجرِ، روى أبو هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكفّل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يُخرِجُه إلا جهادٌ في سبيله وتصديقُ كلمتِه أن يُدخِلَه الجنةَ أو يُرجِعَه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة».
{وَمَا لَكُمْ} خطابٌ للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفاتِ مبالغةً في التحريض عليه وتأكيداً لوجوبه وهو مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه عز وجل: {لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله} حالٌ عاملُها ما في الظرف من معنى الفعلِ، والاستفهامُ للإنكار والنفي، أي أيُّ شيءٍ لكم غيرَ مقاتِلين، أي لا عذرَ لكم في ترك المقاتلة {والمستضعفين} عطفٌ على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصُهم من الأسر وصونُهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضافِ أي في خلاص المستضعفين، ويجوز نصبُه على الاختصاص، فإن سبيلَ الله يعُمّ أبوابَ الخيرِ وتخليصُ ضعفاءِ المؤمنين من أيدي الكفرةِ أعظمُها وأخصُّها {مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيانٌ للمستضعفين أو حالٌ منهم وهم المسلمون الذين بقُوا بمكةَ لصدّ المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذَلّين ممتَهنين، وإنما ذُكر الوِلْدان معهم تكميلاً للاستعطاف واستجلاباً للرحمة وتنبيهاً على تناهي ظلمِ المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيانَ لإرغام آبائِهم وأمهاتِهم وإيذاناً بإجابة الدعاءِ الآتي واقترابِ زمانِ الخَلاصِ ببيان شِرْكتِهم في التضرّع إلى الله تعالى، كلُّ ذلك للمبالغة في الحث على القتال، وقيل: المرادُ بالوِلدان العبيدُ والإماءُ إذ يقال لهما: الوليدُ والوليدةُ وقد غلَب الذكورُ على الإناث فأُطلق الولدانُ على الولائد أيضاً {الذين} محلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ للمستضعفين أو لما في حيز البيانِ، أو النصبُ على الاختصاص {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} بالشرك الذي هو ظلمٌ عظيمٌ، وبأذِيَّة المسلمين، وهي مكةُ والظالمِ صفتُها، وتذكيرُه لما أسند إليه فإن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ إذا أُجريَ على غير مَنْ هُوَله كان كالفعل في التذكير والتأنيثِ بحسب ما عمِل فيه {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} كلا الجارَّيْنِ متعلقٌ باجْعل لاختلاف معنييهما، وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده يُنبىء عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة، وتقديمُ اللامِ على مِنْ للمسارعة إلى إبراز كونِ المسؤولِ نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم، ويجوزُ أن تتعلقَ كلمةُ مِن بمحذوف وقع حالاً من ولياً قُدِّمت عليه لكونه نكرةً وكذا الكلامُ في قوله تعالى: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي ولِّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفَظ علينا دينَنا وشَرْعَنا وينصُرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءَهم حيث يسّر لبعضهم الخروجَ إلى المدينة وجعل لمن بقيَ منهم خيرَ وليَ وأعزَّ ناصِر، ففتح مكةَ على يدي نبيِّه عليه الصلاة والسلام فتولاهم أيَّ تولَ ونصرهم أيةَ نُصرةٍ، ثم استعمل عليهم عتابَ بنَ أسيد ونصرهم حتى صاروا أعزَّ أهلِها، وقيل: المرادُ واجعل لنا من لدنك ولايةً ونُصرةً أي كن أنت وليَّنا وناصِرَنا، وتكريرُ الفعلِ ومتعلِّقَيْه للمبالغة في التضرع والابتهال.